يشير مفهوم الشخص إلى الذات الإنسانية بما هي ذات واعية ومفكرة من جهة، وذات حرة ومسؤولة من جهة أخرى. إذا كان الكثير من الفلاسفة قد ركزوا على جانب الفكر والوعي باعتبارهما يمثلان جوهر الشخص البشري، فإن هناك أبعاد أخرى تميز هذا الكائن؛ بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وغيرها. فللشخص صفات جسدية متغيرة، كما أن له حياة نفسية متقلبة، ثم إنه حيوان سياسي وأخلاقي، محكوم بروابط وعلاقات مع الغير.
أمام كل هذه المحددات نجد أن مفهوم الشخص يثير الكثير من الإشكالات، من أهمها ما يلي:
- ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟
- ما الذي يميز الشخص ويمنحه قيمة وتميز عن باقي الحيوانات والأشياء؟ وما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟
- بأي معنى يمكن النظر إلى الشخص كذات حرة ومسؤولة؟ ألا يمكن القول بأن حريته مشروطة بأوضاع اجتماعية؟
І - الشخص والهوية:
*إشكال المحور: ما الذي يكون الهوية الشخصية؟ وعلى ماذا تتأسس هوية
الشخص؟
1- موقف جون لوك: تحديد هوية الشخص انطلاقا من الشعور والذاكرة.
الشخص عند جون لوك كائن واع ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس فيها التفكير والتعقل. ويربط لوك بين الفكر والشعور، وهذا الربط هو الذي جعله يستنتج أن الشعور هو ما يكون الهوية الشخصية للإنسان. كما يربط من جهة أخرى بين الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الشعور في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص وتقوت. وهذا يعني أن الشعور والذاكرة هما مكونان أساسيان لهوية الشخص.
2- موقف شوبنهاور: الإرادة كأساس لهوية الشخص .
خلافا للفلسفات التي تحدد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة، يرى شوبنهاور أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.
هكذا وبالرغم من التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض. من هنا يرى شوبنهاور أن أساس هوية الشخص ونواة وجوده تتوقف على الإرادة التي تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها، وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.
ІІ- الشخص بوصفه قيمة:
*إشكال المحور: ما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟ ومن أين يكتسب قيمته
الأخلاقية من ذاته أم من علاقته بالآخرين؟
1- موقف كانط : للشخص قيمة مطلقة في ذاته.
يعتبر كانط بأن الشخص هو الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها. من هنا فالشخص هو كائن واع، وهو ما جعله يكتسب قيمة مطلقة في حين لا تتمتع الموجودات غير العاقلة إلا بقيمة نسبية. كما يعتبر الشخص غاية في ذاته، بحيث لا يمكن التعامل معه كمجرد وسيلة. وهذا يعني أنه يمتلك قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.
ولكي يحافظ الشخص على احترامه كذات حرة وأخلاقية، يجب عليه أن يتصرف وفقا للأمر الأخلاقي المطلق بحيث يعامل الإنسانية في سلوكه كغاية وليس كوسيلة. هكذا فحرية الشخص عند كانط مقترنة بالتزامه بالأمر الأخلاقي الذي هو قانون عملي كلي ومطلق، يشكل مبدأ موضوعيا للإرادة الإنسانية، ويعامل الطبيعة الإنسانية كغاية في ذاتها.
2- موقف غوسدورف: قيمة الشخص لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير.
بخلاف فلسفة كانط التي تناولت الشخص الأخلاقي من منظور نظري وعقلي مجرد، نجد أن غوسدورف يتناوله من منظور عملي واقعي. هكذا فقيمة الشخص الأخلاقي لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير وأشكال انفتاحه عليه. فمنذ البدايات الأولى للوجود البشري والإنسان يعيش مع الآخرين ضمن أشكال من التعايش والتضامن التي سمحت للفكر الأخلاقي وغيره أن يتشكل على أرض الواقع. من هنا فالكمال الأخلاقي الشخصي لا يتحقق في مجال الوجود الفردي، بل في مجال الوجود الاجتماعي وفي أشكال التعايش مع الناس.
ІІІ- الشخص بين الضرورة والحرية:
*إشكال المحور: ما علاقة الشخص، بوصفه ذات حرة، بما يحمله من صفات وما
يصدر عنه من أفعال؟ هل هي أفعال صادرة عن إرادة حرة
أم محكومة بإشراطات؟
1- موقف العلوم الإنسانية: الشخص خاضع لحتميات مختلفة.
لقد اعتبر علم النفس الفرويدي بأن نفسية الإنسان تتحدد بشكل حاسم في مرحلة الطفولة، كما أن سلوكاته تقف وراءها نزعات لاشعورية توجه حياته دون أن يشعر. هكذا يحل اللاوعي محل الوعي، ويبدو الشخص خاضعا لنزعاته التدميرية العدوانية التي يختزنها "الهو".
ومن جهة أخرى بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن الكثير من أحاسيس الإنسان وأفكاره وسلوكاته مفروضة عليه من خلال التنشئة الاجتماعية. فالشخص لا يعدو أن يكون نتاجا لتفاعل بنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الزوايا؛ سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أوالمادية والاقتصادي. من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره.
لكن هل يعني هذا غيابا تاما لحرية الشخص في بناء نفسه؟
2- الموقف الفلسفي: القول بحرية الشخص في بناء نفسه.
1- موقف سارتر: الشخص مشروع حرية تتحقق بشكل دائم.
يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي "كون الوجود سابق على الماهية"، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.
إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.
2- موقف عزيز لحبابي: تصطدم حرية الشخص بشروط موضوعية.
يذهب لحبابي إلى أن كل فعل إنساني هو فعل قصدي يرمي إلى تحقيق نوايا وأهداف واعية. وهذا يستلزم من الذات الإنسانية تفهم الشروط الموضوعية والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك الفعل. وهذه القصدية الواعية هي التي تضفي طابع الحرية على الفعل الإنساني، وتجعله يتميز عن الأفعال الآلية الصادرة عن دوافع غريزية كما هو الشأن عند الحيوانات.
هكذا فالكائن الإنساني يسعى إلى شخصنة أفعاله بما هو ذات حرة، وذلك بالسعي نحو اكتساب صفات تميزه كشخص وتضفي على أفعاله قيمة وغائية إنسانية. وبقدر ما أن الشخص حر ويسعى إلى تحقيق ذاته بحسب ما يريده في المستقبل، فهو أيضا ملزم أمام نفسه وأمام المجتمع، أي أن له قضايا إنسانية واجتماعية يضع نفسه في خدمتها. من هنا فإذا كان الشخص حرا وتتسم أفعاله بالقصدية، فإن حريته تصطدم بمحك الواقع وتختبر نفسها داخله؛ إذ لا بد للشخص أثناء إنجازه لأفعاله وتقريره لمشاريعه أن يتفهم شروط وجوده الواقعية.
هكذا فالحرية حسب عزيز لحبابي، ليست مجرد حرية نظرية ذاتية، بل إنها حرية مجتمعية وتاريخية، إنها حرية ملتزمة بقضايا المجتمع والآخرين.