تقال السياسة على تدبير المعاش، بإصلاح أحوال جماعة مخصوصة على سنن العدل والاستقامة ( المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، د.عبد المنعم الحفني ). فالسياسة هي تجسيد لممارسة عليا تتم بين أفراد النوع البشري، ففيها يتم الانتقال من الاجتماع المؤقت والتلقائي إلى الاجتماع الدائم المتمثل في إقامة الدولة على مبادىء التعاقد الاجتماعي الذي يتنازل الأفراد بموجبه عن جزء من حرياتهم الفردية ليمتثلوا لسلطة الدولة من حيث أنها تمثل المجتمع عبر الأساليب الديمقراطية والانتخاب الحر.
فالسياسة إذن هي ممارسة للسلطة داخل المدينة أو الدولة، وبواسطتها يتم تثبيت القانون من خلال قوة عمومية تتجسد في مجموعة من الأجهزة والمؤسسات. هكذا يحيل مفهوم السياسة على مجموعة من المفاهيم المرتبطة به، مثل: الدولة، السلطة السياسية، الحق، القانون، العدالة...
وقد اعتبر أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، وأن "الأمر الذي يميز الإنسان بشكل خاص هو كونه يدرك الخير والشر، والأمر العادل والجائر، وكل العواطف الشبيهة بذلك، والتي يكون التواصل بها مؤسسا للأسرة وللدولة" ( أرسطو، السياسة، عن الكتاب المدرسي، مباهج الفلسفة، السنة الأولى باكلوريا، ص64 ). فالممارسة السياسية إذن تشكل أهم الممارسات البشرية، وهي التي تجعل الوجود الاجتماعي منظما وقائما على مبادىء عقلية قانونية وأخلاقية. ولهذا لا يتحدد مجال النظر السياسي بمفهوم الدولة فقط ، وإنما بمفاهيم أخرى مرتبطة بها كالحق والعدالة والعنف.
فالدولة ترتكز على قوانين تتوخى إحقاق الحق والإنصاف والعدالة والمساواة وتهذيب السلوك البشري. غير أن الناس مع ذلك، وتبعا لمصالح محددة، يلتجئون إلى ممارسة العنف على بعضهم البعض، مما قد يضطر الدولة إلى التدخل بقوانينها وأجهزتها القضائية إلى إحقاق الحق وتثبيت العدالة.
- فما الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وما الغاية منها؟ وكيف تمارس سلطتها السياسية؟
- ما العنف؟ ما هي أشكاله ومظاهره؟ وما هو دور العنف في التاريخ؟ وهل يمكن الإقرار بمشروعية العنف؟
- ما الحق؟ ما العدالة؟ وكيف تتحدد العلاقة بينهما؟
الدولة
تعتبر الدولة تنظيما سياسيا يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة، وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة. ولذلك لا يمكن الحديث عن الدولة في مجال ترابي معين إلا إذا كانت السلطة فيها مؤسساتية وقانونية، وأيضا مستمرة ودائمة لا تحتمل الفراغ.
كما يقترن اسم الدولة بمجموع الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. هكذا تمارس الدولة سلطتها بالاستناد إلى مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق الأمن والحرية والتعايش السلمي.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة، وعن الغاية من وجودها من جهة أخرى؟
كما تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية؟ وعن مدى مشروعية الدولة في استخدام العنف؟
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
فيما يخص مفهوم المشروعية، ينبغي التمييز بين ما هو مشروع légitime) ) يستهدف إحلال العدل والحق، ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن يكون. أما ما هو شرعي (légal) فيعني ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها، ومن ثمة فهو يشير إلى ما هو واقعي وفعلي.
أما مفهوم الغاية فيدل على "ما لأجله إقدام الفاعل على فعله، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في الأفعال غير الاختيارية."(المعجم الشامل...مرجع سابق)
فما الغاية من وجود الدولة إذن؟ ومن يختار لها هذه الغاية؟ ووفق أية اسس ومنطلقات؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟
لقد قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، ولذلك فمشروعية الدولة عندهم تستمد من الالتزام بمبادىء التعاقد المبرم بين الأفراد. وغايتها هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة حسب اسبينوزا في صيانة حقوق الأفراد ككائنات عاقلة، أو المتمثلة حسب هوبز في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي.
وقد انتقد هيجل هذا التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية، ورأى أن غاية الدولة لا تكمن في أية غاية خارجية، وإنما تتمثل في غاية باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل المطلق.
وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك أنواع متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛ مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية الماضي واستلهام الأجداد، والمشروعية المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلاقية أو إيديولوجية ويحكم باسمها. والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية الانتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات وتوزيع السلط.
فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية؟
المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية
إن مفهوم الطبيعة يدل على علة باطنية محركة للشيء، كما يشير إلى خاصية جوهرية تميز الشيء عن غيره. ولهذا فالتساؤل عن طبيعة السلطة السياسية يفترض التساؤل عن خصائصها وآلياتها وما يميز ممارستها داخل المجتمع. هل هي محصورة في أجهزة الدولة في إطار تصور سياسي مركزي وتراتبي أم أنها جملة قوى ميكروفيزيائية مشتتة وموزعة في ثنايا المجتمع؟
هنا يمكن تقديم أطروحة ألتوسير الذي يرى أن السلطة تمارس من خلال أجهزة الدولة سواء تعلق الأمر بأجهزتها القمعية، كالإدارة والجيش والشرطة والسجون...، أو بأجهزتها الإيديولوجية كالمدرسة والإعلام والنقابة والأحزاب...الخ.
وفي مقابل هذا التصور الذي يحصر السلطة في مجموعة من الأجهزة، في إطار تصور سياسي مركزي، يمكن الحديث عن تصور ميشيل فوكو الذي يعتبر أن السلطة تسري في الجسم الاجتماعي برمته، وأنها الاسم الذي يمكن إطلاقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين.
وإذا كان ألتوسير يتحدث عن استعمال الدولة لأجهزتها القمعية في تثبيت سلطتها والإلزام باحترام القوانين، فإلا أي حد يكون للدولة الحق والمشروعية في استخدام العنف؟
المحورالثالث: الدولة بين الحق والعنف
حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا انبنت هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
فما المقصود بمفهومي الحق والعنف؟
يحدد المعجم الفلسفي لأندري لالاند الحق باعتباره "ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، وما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو واقعي وفعلي". كما يحدده كانط باعتباره يحيل إلى "مجموع الشروط التي تسمح لحرية كل فرد بأن تنسجم مع حرية الآخرين".
أما العنف فيمكن القول بأنه "اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، وهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق". (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة،د.عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة،2000)
هكذا يتبين أن الحق هو نقيض العنف؛ إذ أن الأول يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين أن الثاني يمارس ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن البحث عن مشروعية لممارسة الدولة العنف ضد الأفراد أوالجماعات؟ وهل العنف ضروري للدولة لكي تمارس سلطتها؟ ألا يتعارض العنف في هذه الحالة مع الحق والقانون؟
لمعالجة هذا الإشكال يمكن توظيف أطروحة ماكيافيل الذي يرى بأنه لا يمكن للأمير أن يتحلى بكل الفضائل الإنسانية المحمودة، من أجل الحفاظ على سلطانه، بل عليه أن يلجأ إلى استعمال العنف والشر إذا اقتضت الضرورة ذلك، وما دامت الغاية تبرر الوسيلة، أو توظيف أطروحة ماكس فيبر الذي يعطي للدولة الحق في ممارسة العنف المادي، إذ هي وحدها تمتلك هذا الحق وتحتكره، فهو الوسيلة المميزة لها.
ويمكن معارضة هاتين الأطروحتين بأطروحة جاكلين روس التي تعتبر أن دولة الحق هي ممارسة معقلنة لسلطة الدولة، يخضع فيها الحق والقانون إلى مبدإ احترام الشخص البشري وضمان كرامته الإنسانية وذلك ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف التي قد يتعرض لها. إن الفرد في دولة الحق هو قيمة عليا ومعيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها.
العنف
وهذا الإشكال المتعلق بمشروعية العنف هو الذي نجده في المحور الثالث من درس العنف. ولذلك يمكن معالجته انطلاقا من موقف ماكس فيبر الذي يتحدث عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة، وعن حقها في احتكار هذا النوع من العنف، مستشهدا بتروتسكي الذي يرى "أن كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف".
ويمكن معارضة ذلك بموقف غاندي الذي يرى أن العنف هو دوما عنف، وأنه رذيلة، وأن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني بينما اللاعنف هو الذي يحكم النوع الإنساني. كما يمكن استثمار موقف إريك فايل الذي يرى أن الفلسفة هي رفض للعنف بصفة مطلقة، وان منطلقها وهدفها النهائي هو اللاعنف أي اختيار الخطاب العقلي المتماسك.
إن العنف واقعة أساسية في تاريخ المجتمعات البشرية، وهو يعتمد على تقنيات ووسائل مختلفة، كما يتخذ أشكالا متعددة.
من هنا سيتم التساؤل في المحور الأول عن طبيعة العنف؟ وعن أشكاله ومظاهره المختلفة؟
وهنا يمكن الحديث مع إيف ميشو YVES MICHAUD عن أشكال مختلفة من العنف المادي التي ميزت المجتمعات البشرية في القرن العشرين؛ كالحروب والإبادات والاضطهاد ومعسكرات الاعتقال والإجرام وغير ذلك. وقد ساهمت التكنولوجيا في تطوير وسائل العنف المادي، كما ارتبط العنف بوسائل الإعلام التي أدت إلى انتشاره والإخبار عنه.
غير أن بيير بورديو يتحدث عن شكل آخر من العنف، هو العنف الرمزي الذي هو شكل لطيف من العنف يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه. يقول بورديو: "العنف الرمزي هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم، وهو عنف يما3س عبر الطرق والوسائل الرمزية الخالصة، أي عبر التواصل وتلقين المعرفة". ( نص إضاءة لبورديو، مباهج الفلسفة، السنة الثانية باكلوريا، ص144)
وبالرغم من ازدياد حدة العنف في المجتمعات المعاصرة، فإن العنف ظاهرة تاريخية لا تخلو منها أمة أو قبيلة أو دين؛ " فالجماعة مستعدة دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف...لكي يعيش ولكي يجد له معنى على الأرض". (محمد أركون المرجع السابق، ص144)
من هنا يمكن التساؤل في المحور الثاني عن دور العنف في التاريخ؛ فما هو دور العنف في التاريخ؟ وكيف يتولد العنف في تاريخ المجتمعات البشرية؟
ويمكن أن نستثمر هنا موقف ماركس الذي يبين ظاهرة العنف من خلال الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول للتاريخ؛ " فالمضطهدون والمضطهدون أقاموا بينهم حروبا لا تتوقف، معلنة أحيانا وخفية تارة أخرى". ( ماركس، المرجع السابق، ص145) ففي عصر سيادة البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) أصبح المجتمع منقسما إلى معسكرين متعاديين، أي إلى طبقتين متعارضتين تعارضا كليا هما البورجوازية والبروليتاريا. والصراع الطبقي قد يتخذ طابعا فرديا لا يعيه الفرد ذاته، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح.
ويمكن تقديم تحليل آخر لظاهرة العنف في التاريخ، هو ذلك الذي يقوم به فرويد حيث يربط العنف بطبيعة الجهاز النفسي للإنسان، الذي يعتبر كائنا عدوانيا وشرسا بطبعه. ولذلك لا يمكن سوى قمع العنف وكبح جماحه دون التمكن من القضاء عليه، ما دام يعاود الظهور حينما يتم إلغاء الزجر في فترات الحرب. وقد عرف مسار العنف تطورا في تاريخ البشرية؛ حيث تم الانتقال من العنف العضلي إلى العنف الذي يستخدم الأدوات، ثم إلى عنف عقلي سيشكل قوى موحدة ضد عنف الأقوى. وهذا ما سيؤدي إلى ظهور مفهوم الحق كقوة جديدة ضد العنف.
الحق والعدالة
وإذا انتقلنا إلى درس الحق والعدالة، سنجد أن هناك تداخلات وتقاطعات بين هذين المفهومين تؤدي إلى بؤرة من الإشكالات.
فما المقصود أولا بالعدالة؟
يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين.
وتدل العدالة في معجم لالاند على صفة لما هو عادل، ويستعمل هذا اللفظ في سياق خاص عند الحديث عن الإنصاف Equité) ) أو الشرعية légalité) ). كما يدل لفظ العدالة تارة على الفضيلة الأخلاقية، وتارة على فعل أو قرار مطابق للتشريعات القضائية. كما يدل اللفظ فلسفيا على ملكة في النفس تمنع الإنسان عن الرذائل، ويقال بأنها التوسط بين الإفراط والتفريط.
هكذا يمكن الحديث عن مستويين في العدالة:
- مستوى يرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية التي تنظم العلاقات بين الناس في الواقع.
- ومستوى يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية، وكمثال أخلاقي كوني يتطلع الجميع لاستلهامه.
أما فيما يخص مفهوم الحق، فيمكن القول بأن له دلالتين رئيسيتين:
- دلالة في المجال النظري والمنطقي؛ حيث يعني اليقين والصدق والاستدلال السليم.
- ودلالة في المجال العملي؛ باعتباره قيمة تؤسس للحياة الاجتماعية والممارسة العملية
للإنسان.
وهذه الدلالة الثانية هي التي تجعله يتقاطع مع مفهوم العدالة.
ويتخذ مفهوما الحق والعدالة أبعادا متعددة؛ طبيعية وأخلاقية وقانونية وسياسية، كما يرتبطا بمجموعة من المفاهيم الأخرى؛ كالطبيعة والثقافة والإنصاف والمساواة. وداخل هذه العلاقات يمكن إثارة مجموعة من الإشكالات من قبيل:
- الحق بين الطبيعي والثقافي.
- العلاقة بين الحق والعدالة.
- العدالة بين الإنصاف والمساواة.
نبدأ بالإشكال الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي.
حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.
وصحيح أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون في مبدإ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية أو الاجتماع. من هنا فللإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.
ويمكن معارضة هذا التصور بالتصور الوضعي الذي يرفض تأسيس الحق على أية اعتبارات ميتافيزيقية أو افتراضات عقلية؛ إذ لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقا من اعتبارات واقعية، ومن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع. وهنا يرى هانز كيلسن أن الحق نسبي بنسبية المبادئ التي يرتكز عليها، وأنه لا وجود لحق خارج إطار القانون المتجسد في المؤسسات القضائية والتنفيذية التي تفرضه في الواقع.
وإذا كان الحق لا يتجسد إلا من خلال القوانين التي وضعت بهدف تحقيق العدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد، فكيف تتحدد علاقة الحق بالعدالة؟ وهل يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟ وهل هناك وجود للحق خارج إطار القوانين التشريعية والقضائية الممثلة للعدالة؟
العدالة كأساس للحق:
يمكن أن نقدم هنا تصور اسبينوزا الذي يعتبر أن العدالة هي تجسيد للحق وتحقيق له، فلا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. فالعدل يتمثل في إعطاء كل ذي حق حقه طبقا للقانون المدني، وأما الظلم فهو سلب شخص ما حقه بمخالفة هذا القانون.
لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الحق يسمو على قوانين العدالة وتشريعاتها القضائية، وأن هذه الأخيرة قد تكون جائرة وهاضمة للحقوق المشروعة للأفراد؟
معنى ذلك أنه يجب البحث عن أساس آخر للحق غير العدالة وقوانينها؟
هنا يمكن استدعاء أطروحة شيشرون التي يرى صاحبها أن المؤسسات والقوانين لا يمكن أن تكون أساسا للحق، وانه يجب البحث عن هذا الأساس في الطبيعة الخيرة للإنسان التي تتمثل في الميل إلى حب الناس الذي هو أساس الحق. هكذا يرى ششيرون أنه " طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى". ( منار الفلسفة، س2باكلوريا، ص166)
لكن المشكل الذي تطرحه نظرية شيشرون هو طابعها المثالي؛ إذ أن الناس في الواقع لا تصدر عنهم دائما سلوكات خيرة إما بسبب نزوعاتهم العدوانية كما يرى البعض، أو بسبب الصراع حول المصالح كما يرى البعض الآخر.
وإذا كان الناس متفاوتين في الواقع بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في المؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية وغير ذلك، فهل ينبغي تطبيق العدالة بينهم بالتساوي، بحيث يكون الناس أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟ وبتعبير آخر؛ إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟
العدالة بين المساواة والإنصاف:
لمقاربة هذا الإشكال، يمكن تقديم أطروحتين متباينتين؛ الأولى لألان (Alain) [ إميل شارتيي] الذي يرى أنه لا يمكن الحديث عن الحق إلا في إطار المساواة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية. والحق لا يتجسد إلا داخل المساواة باعتبارها ذلك الفعل العادل الذي يعامل الناس بالتساوي بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهم. وفي هذا الإطار يقول ألان: " يسود الحق فقط حين يتساوى طفل صغير يحمل نقوده ناظرا إلى المعروضات بعيون متلهفة، مع الخادمة الأكثر شطارة ". (في رحاب الفلسفة، س2باكلوريا،مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، ص166).
أما الأطروحة الثانية فيقدمها ماكس شيلر، الذي يذهب إلى القول بأن العدالة لا تتمثل في المطالبة بالمساواة؛ لأنها مساواة جائرة ما دامت لا تراعي الفروق بين الأفراد فيما يخص الطبائع والمؤهلات التي يتوفرون عليها. فالعدالة المنصفة هي التي تراعي اختلاف الناس وتمايز طبائعهم ومؤهلاتهم. ومن الظلم أن نطالب بالمساواة المطلقة بين جميع الناس. إن وراء هذه المطالبة بالمساواة كراهية وحقد على القيم السامية، ورغبة دفينة في خفض مستوى الأشخاص المتميزين إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل السلم.