منتدى التلميذ النجيب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى التلميذ النجيب

دروس..ملخصات..تمارين..فروض..تطوير ذاتي...
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الغير

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
said




عدد المساهمات : 29
تاريخ التسجيل : 19/09/2009

الغير Empty
مُساهمةموضوع: الغير   الغير Emptyالسبت أكتوبر 10, 2009 12:46 am

دلالات: الغير ذلك الأنا الذي ليس أنا

الإنسان كائن اجتماعي، واجتماعيته هذه تعني وتقتضي التفاعل مع الآخرين أي مع الغير. وإذا كان تفاعلي مع الأشياء وتمييز نفسي عنها لايكاد يطرح مشكلة، فالأمر خلاف ذلك فيما يخص الغير، لأنه ببساطة ذلك الشبيه المختلف : إنه شبيهي مادام يشاطرني كثيرا من الصفات العامة (الفيزيولوجية ،النفسية، السلوكية...)، لكنه لايفتأ يؤكد – ضمن هذا التشابه – اختلافه عني في مؤهلاته واختياراته ورغباته ومشاريعه ...

تقع هذه الإزدواجية في صلب أغلب الإشكالات الفلسفية للغير، فلقد عرفه سارتر: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟

لنطرح قضية الغير بتجريد أقل: كيف يتبدى الغير لذاتي؟ كيف أعرف الغير؟ وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ إذا انطلقت من افتراض معرفتي لذاتي ولحالاتي النفسية الشعورية بواسطة إدراك ووعي باطني مباشر، فكيف السبيل لمعرفة الغير؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟

ولنطرح القضية بتجريد أقل مما سبق: كيف أقرأ علاقاتي المختلفة بالغير؟ ألا تدلني هذه العلاقات من جهة، على امكانية التواصل والتماهي معه، كما في حالة الصداقة والصديق ؟ وعلى حقيقة الإنفصال والإختلاف الجذري واللاتواصل واللاتفاهم كما في حالةالغريب من جهة ثانية؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !

إشكالية وجود الغير



عرف سارتر الغير: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟

تنبيه: يمكن استثمار معطيات هذاالمحور لمعالجة قضايا واشكاليات عديدة: الغير كأنا آخر- مفهوم الوعي أو الذات المفكرة- علاقة أوضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا- الوجود والإعتراف بالوجود- مكانة الغير في عالم الذات ...

يلاحظ أن وجود الغير يمثل بالنسبة للحس المشترك قضية بديهية مسلما بها. وكلما تماهينا مع الحس المشترك بداخلنا وافتقدنا الخاصية النقدية الإستفزازية للتفكير الفلسفي ،إلا وصعب علينا إدراك جوهر اشكالية وجود الغير ومكامن الصعوبة والتعقيد بداخلها. وفي الواقع فهذه اشكالية حديثة في تاريخ الفلسفة نفسه. وقد طرحت نفسها بحدة انطلاقا من الفلسفة الديكارتية: ذلك أن اكتشاف الذات كمصدر للحقيقة ومرجع للحكم قد فجر – ليس فقط اشكالية وجود العالم والأشياء – بل وإشكالية وجود الذوات الأخرى (الغير) أيضا: من المعروف أن إثبات وجود الذات أو مايعرف بالكوجيطو يأتي تتويجا لمغامرة الشك الشامل. إن الشك هو الحقيقة الأولى التي لانستطيع الشك فيها دون أن نؤكدها،والشك يكشف اذن عن وجود الذات وطبيعتها المفكرة. ولكن بما ان الكوجيطو ترجمة لوعي الذات بنشاطها المفكر وعيا مباشرا بواسطة حدس باطني، فهل يمكن استعمال الكوجيطو في غير ضمير المتكلم واستغلال قوته الإثباتية في إثبات وجود الغير كذات وأنا واعية؟ إن ديكارت وهو ملتزم بالحذر المنهجي وبأن لا يعلن قضية على أنها حق قبل اجتيازها اختبار الشك الصارم، يعلن أنه عندما ينظر من النافذة إلى الأسفل يحكم بأنه يرى أناسا يسيرون في الشارع رغم أنه لايدرك في الحقيقة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآلات تحركها لوالب !!وبالمثل فإن الإعلان عن وجود الغير كذات لايمكن النظر إليه إلا كاستدلال عقلي قائم على ملاحظة التماثل في الصفات بين الأنا والغير كالكلام والسلوك التلقائي الذكي..، ثم الإستنتاج بأنها تمظهرات دالة على وجود ذات مفكرة واعية يستحيل إدراكها مباشرة لأن ذلك مناقض لمعنى الوعي باعتباره حضور الذات إزاء نفسها. ولكن مالمشكلة في مثل هذا الإستدلال؟ على عكس حكم الحدس يظل حكم الإستدلال -ومن ثم وجود الغير- احتماليا مفترضا وجائزا لايبلغ درجة يقين وجود الأنا أفكر. نحن أمام مذهب فلسفي تنتهي نتائجه إلى "وحدانية الذات " التي لاتستطيع أن تجزم يقينا سوى بوجودها الخاص، وذلك بسبب تبنيها لمفهوم الوعي باعتباره تطابق الأنا مع ذاته.

<

لكن هل يمكن حقا لفعل الوعي أن يستغني عن حضور الغير والعلاقة به بشكل من الأشكال؟ هل يمكن لكائن ولموجود وحيد في عزلة انطلوجية مطلقة أن يعي ذاته ويشير إليها بضمير"أنا"؟

يتناول هيغل التركة الديكارتية من زاوية مغايرة: فالوعي ليس كيانا ميتافيزيقيا مجردا ثابتا أو معطى أوليا إنه بالأحرى كيان ينمو ويتطور في علاقته بما عداه من الأشياء (الطبيعية) أولآ ثم الغير(وعي الذات الأخرى) ثانيا. كيف ذلك؟ من المعروف أن المنطق الجدلي عند هيغل يؤكد على مبدأي التناقض والصيرورة التي تتجلّى بوضوح في العملية الثلاثية المستمرة : الأطروحة – النقيض – التركيب؛ وبعبارة أخرى فكل كائن يحمل بالضروة نقيضه كشرط لوجوده ومن ثم فالوعي يحمل بالضرورة نقيضه كعنصر سلب ونفي متمثل في ماسواه. يتخد هذا الأخير شكل الطبيعة أولا: فمن خلال تغييرها وترك آثار عليها واشباع الحاجات البيولوجية، يبدأ الوعي في اكتشاف نفسه

و"وعيها" ، لكن هذا الإكتشاف لايتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات التي تظل مع ذلك غارقة ومنغمسة في الطبيعة لكون رغباتها لاتتجاوز الرغبات الطبيعية، لكن هذا يدلنا على كل حال على أهمية"التوسط"في وعي الذات، وبعبارة أخرى لايمكن للوعي أن ينبثق من خلال العلاقة المباشرة للأنا بذاته بل عبر آخر يتوسط بينه وبين ذاته ولن يكون هذا الآخر في المرحلة التالية سوى الغير أو الذات الأخرى التي يتعين أن يكتشف الأنا نفسه فيها من خلال إعترافها به. هكذا ينتقل الأنا من الرغبة في شيء طبيعي إلى الرغبة في رغبة أخرى هي هذا الإعتراف الذي لايمنح بشكل سلمي لأنه إعتراف منشود من الطرفين معا. على ضوء هذا التحليل يقرأ هيغل علاقة أو "جدلية السيد والعبد" باعتبارها أول علاقة إنسانية مدشنة للتاريخ البشري: إنها علاقة فردين يغامران بحياتهما ويسموان فوق الطبيعة بدخولهما في صراع ينشد فيه كل طرف موت الآخر، بيد أن المنتصر في نهاية المطاف يبقي على حياة المنهزم لأن موته لايحقق الإعتراف المنشود. إن السيد والعبد وجهان لعملة واحدة هي وعي الذات: الأول وعي لذاته خالص، والثاني وعي تابع أو " وجود – من – أجل – الغير". صحيح أن علاقة الأنا بالغير لاتتخد دوما هذا الطابع الدراماتيكي، لكن الصراع الضمني أو المعلن يظل خاصيتها المؤسسة. لأن كل علاقة من هذا القبيل هي نشدان للإعتراف أو بالأحرى إنتزاع له.

تدفعنا المقاربة الهيغيلية إلى القول بأن وعي الذات يقتضي وعي الغير، وأن الأنا والغير ينبثقان من خلال علاقتهما وليس قبلها. ونضيف تأكيدا لضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا حالة " الأطفال المتوحشين" الذين لاحظ إتيان مالصون أن بعضهم يشكو من ضعف أو غياب سيرورات الوعي بالذات كعدم التعرف على النفس في المرآة وعدم القدرة على الإحساس بالفخر والخجل... بسبب إفتقادهم طيلة طفولتهم إلى العلاقة مع الغير. إنها إذن علاقة ضرورية في سيرورة نمو الوعي وظهوره. ولنسأل أنفسنا أخيرا: هل يستطيع الواحد منا أن يعتبر نفسه ذكيا أو بليدا، ودودا أو حقودا، جميلا أو ذميما، بطلا أوجبانا... من غير أن نكون قد إستخلصنا ذلك من نظرة الغير أو شهادته؟

إشكالية معرفة الغير

تنبيه: يمكن استثمار المعطيات اللاحقة لمعالجة إشكالات موازية مثل: التواصل مع الغير، الإعتراف بالغير وإحترامه أو إقصاؤه، الغير والمشاركة الوجدانية، الغير كذات أو كموضوع، الإتصال والإنفصال بين الذوات...



لنطرح قضية الغير بتجريد أقل: كيف يتبدى الغير لذاتي؟ كيف أعرف الغير؟ وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ إذا انطلقت من افتراض معرفتي لذاتي ولحالاتي النفسية الشعورية بواسطة إدراك ووعي باطني مباشر، فكيف السبيل لمعرفة الغير؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟

يبدو أن إثبات التلازم الجدلي بين الأنا والغير عند هيغل لايتم إلا من خلال الطابع الصراعي لعلاقتهما، أفلا يحضر هذا الطابع الصراعي أيضا على مستوى العلاقة المعرفية؟ إذا كنت في معرفتي لذاتي أؤكدها من خلال وعيي المباشر بحالاتي النفسية الداخلية، أفلا تعني معرفة الغير تحويله إلى موضوع ومن ثم نفيه كذات؟

تحيل العلاقة المعرفية على ذات وموضوع: ذات تمارس فعل المعرفة مكرسة بذلك حريتها وتلقائيتها وفعاليتها، وموضوع خاضع لشتى العمليات المعرفية كالإدراك والحكم والتصنيف أو حتى الشك والنفي. إنه إذن تحت رحمة الذات أو "الأنا أفكر"مجردا من صفات الذات كالتلقائية والحرية غارقا في العطالة كالأشياء. وهذا ماتؤكه على نحو ملموس تحليلات سارتر لتجربة الخجل الناجمة عن نظرة الغير: فقبل الخجل يتصرف الأنا في تطابق مع ذاته بحرية وتلقائية ،إنه مركز عالمه الداخلي، وما إن يحس الأنا حضور الغير من خلال نظرته،حتى تتجمد حريته وعفويته(التوتر-الإرتباك-الإحساس بالتفاهة ...) وينسحب من مركز عالمه إلى هامشه، وقد تحول إلى موضوع أو شيئ . يقول سارتر:"عندما ينظر إلى الغير فهو يفرض نفسه خارجا عني ليحولني إلى شيء : قادرا على تأويل سلوكي وإعطائه معنى قد لا يكون هو المعنى نفسه الذي أقصده، وبذلك أسقط تحت رحمته وسلطته ... "وذلك لأني أحس أن صورتي كما يراها الأخر مستقلة عني في وجودها كصورتي الفوتوغرافية، ويرجع سارتر الطبيعة التشييئية لعلاقة الأنا بالغير إلى أن هذا الأخير هو "لا- أنا" مما يعني السلب والنفي والإنفصال، هذاالإنفصال الذي تؤكده واقعة الإنفصال الأمبريقي بين جسمينا. وهكذا لايمكن للغير أن يتبدى لي(والعكس صحيح ) سوى كـــ"شيئ في ذاته" ولعل خير ما يلخص التصور السارتري السابق هو عبارته الشهيرة "الجحيم هم الأخرون ".

في نفس السياق القائل باستحالة أو على الأقل صعوبة معرفة الغير يندرج تصور غاستون بيرجي حول عزلة كل ذات داخل عالمها الخاص بسبب إستحالة التعبير عن العالم الحميمي للذات، عندما يقول: " إن ما هو خاص به، ما هو حميمي وما يميزني عن الأخرين يشكل أكبر عائق أمام كل محاولة للتواصل مع الغير: فأنا الوحيد الذي أملك روحي، لكني سجينها في نفس الوقت، وحتى عندما أرغب في الخروج منها للتواصل أفشل، لأن حركاتي وكلماتي ليست سوى تلميحات وإشارات إلى ما أحسه لكن الأخر المستمع لا يعيش هذا الإحساس ! إن ألم ومعاناة الأخرين هي التي تكشف عزلة الذوات على بعضها " .
هل يمكن و الحالة هذه أن نعلن إستحالة معرفة الغير وأن نجعل من الذوات جزرا وقلاعا حصينة مغلقة أو" مونادات " بتعبير لايبنز ؟ الواقع أن تحليلات فلسفية عديدة ترى غير ذلك: فهذا ميرلوبونتي يقوم بوصف فينومينولوجي لعملية التواصل ليستدل بها على إمكانية معرفة الغير معتبرا أن العلاقة مع الغير لا تحوله إلى موضوع وتنفيه. وأن النظرة لا تشيؤه إلا إذا كانت نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق: أي نظرة تفحص ومراقبة لا نظرة تفهم وتقبل (كنظرة الأم وهي تتابع مشجعة خطوات إبنها الأولى )، وإلا إذا آنسحبت كل ذات إلى طبيعتها المفكرة وتموقعت داخل تعالي الكوجيطو متخدة ما عداها مجرد موضوعات لعملياتها المعرفية. وبالمقابل فإن أبسط تجارب التواصل بعد صمت لا تنقل إلي بعض أفكار الغير وأصواته فحسب، بل وعالمه الذي كان يتبدى لي من قبل متعاليا غريبا منفصلا عن عالمي. إن التواصل يثبت أن الإختلاف والمغايرة بين الذوات ليست من نمط الإختلاف الطبيعي ( كذاك القائم بين شيئين: طاولة وكرسي حيث الهوة و الإنفصال) بل إختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن المجال "البينذاتي " المشترك . لهذا السبب لا يتحدث ميرلوبونتي عن المعرفة (connaissance) بل عن الإنبثاق المشترك (co-naissance ).

لكن الإقرار بإمكانية معرفة الغير لا يمنعني من البحث عن أنماط وطرائق هذه المعرفة، لأن التواصل يفترض وجود علامات، سنن وقنوات. وفي هذا الإطار يبدو كما لو أن معرفتنا بالغير قائمة على نوع من الإستدلال الضمني هو "الإستدلال بالمماثلة"، فإذا كانت حالة الخجل تترافق عندي مع احمرار الوجه، والألم مع البكاء وبعض الكلمات مع بعض المعاني أو المشاعر، فإني أسارع إلى تأويل احمرار الوجه كعلامة على خجل الغير،كما أنسب إلى كلماته المعاني والمشاعر المعهودة لدي ... وهكذا. إن معرفة الغير على هذا النحو قائم على افتراض أن الغير شبيه ومماثل للأنا، وأن العلامات الخارجية الصادرة عنه ( كلمات ،حركات، تعابير الوجه ... ) تترافق مع حالات نفسية داخلية معينة كما هو الحال لدى الذات ،إننا ببساطة لا نعرف الغير مباشرة، بل عبر وساطة ما يصدر عنه من علامات . غير أن تناول معرفة الغير على هذا النحو يطرح صعوبات واستحالات : فقد يظهر الغير خلاف ما يبطن قاطعا الصلة بين الحالة النفسية وعلاماتها المعهودة ، وقد تفشل التعابيرالخارجية (الكلمات مثلا ) في التصوير الدقيق لتلوينات المعاني والأحاسيس والمشاعر، بل هناك ماهو أكبر من ذلك: عندما أدرك وراء إحمرار وجه الغير خجله، فأي خجل أدرك بالضبط؟ ألا أستحضر هنا تجربة خجلي الخاصة لفهم خجل الغير؟ ألا أدرك إذن خجلي الخاص فحسب؟ إنني ألتقي هنا مجددا بذاتي أنا وليس بذات الغير مادمت أختزل خجل الغير إلى خجلي الذي سبق أن خبرته وعشته؟

إن معرفة الغير من خلال إستدلال المماثلة تنتهي إلى تناقضات كثيرة نعيها بدرجات مختلفة في حياتنا اليومية، لذلك يرى ماكس شيلر أنه لتجاوز هذه الصعوبات ،ينبغي تجاوز الخلفيات الميتافيزيقية للتحليل السابق الذي يتناول الغير من خلال ثنائيات النفس/ الجسم أو الظاهر / الباطن وإعتبار الغير كلية أو كلاّ موحدا لايقبل التجزئة والإنقسام ولا يحيل فيه ظاهر مادي (جسدي) على باطن أو عمق مستحيل المنال ، بل إن حقيقته وهويته مجسدتان فيه كما يظهر ويتجلى للأنا : إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر. وينبغي التشديدعلى هذه الكلمة الأخيرة لأنها تدل على أن التحليل الظاهراتي أو الفينومينولوجي (أي وصف التجربة المعيشية مباشرة قبل خضوعها للمعالجة العقلية المجزئة ) يظهر أن معرفتنا للغير هي معرفة كلية مباشرة لا يمكن تجزيئها إلى عناصر ومراحل دون الإخلال بحقيقتها : فعندما أدرك فرح الغير ،فإني لا أدرك إبتسامته أولا منفصلة عن فرحه الداخلي الذي أستنتجه لاحقا، بل أدرك الأمرين معا ككلية متزامنة . ومما يدل على الطابع المباشر لعلاقتنا المعرفية بالغير ،قدرة الرضيع على التجاوب مع أمه والرد على إبتسامتها بابتسامة مماثلة مدركا مشاعر الأمان والحنان والتشجيع الكامنة خلفها وهو غير قادر بعد على القيام بأي نشاط أستدلالي معقد . ألا يشهد ذلك أن معرفتنا للغير تفترض نوعا من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الذوات . وهي مشاركة تبدو كمعطى شبه غريزي وكشرط لإندماج الكائن البشري ضمن جماعة الذوات الأخرى . وإذا استعملنا مصطلحات دلتاي سنقول بأن معرفة الغير تنتمي إلى مجال الفهم لا إلى مجال التفسير.

هكذا تبدو معرفة الغير أكثر تعقيدا مما يتصور الحس المشترك، بحيث تصدق هنا مقولة التوحيدي: " لقد أشكل الإنسان على الإنسان" وهو تعقيد يتزايد عندما نتأمل تعدد وجوه الغير.

وجوه الغير: الصداقة والغرابة





ولنطرح القضية بتجريد أقل مما سبق: كيف أقرأ علاقاتي المختلفة بالغير؟ ألا تدلني هذه العلاقات من جهة، على امكانية التواصل والتماهي معه، كما في حالة الصداقة والصديق ؟ وعلى حقيقة الإنفصال والإختلاف الجذري واللاتواصل واللاتفاهم كما في حالةالغريب من جهة ثانية؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !

تنبيه: يمكن إستثمار المعطيات اللاحقة كنماذج تطبيقية وأمثلة ملموسة أثناء الإشتغال على إشكاليات متعلقة بوجود الغير أو معرفته.

ليست علاقتنا بالغير مجرد علاقة معرفية، بل هي علاقة مركبة: عاطفية، وجدانية، إقتصادية، سياسية... ولذلك لايمكن فهمها في المجرد والمطلق بل بالتخصيص والتمييز: إذ يختلف تناول إشكالية وجود الغير وعلاقته بالأنا أو معرفته أو أشكال التواصل معه أو إمكانية إحترامه أو نبذه... حسبما إذا كان هذا الغير صديقا أو غريبا مثلا.

من بين كل الأغيار، يمثل الصديق نموذجا لكل القيم الإيجابية، فلا عجب أن تكون لفظة الصداقة - في اللغة العربية- مشتقة من الصدق الذي يعني الحقيقة والقوة والكمال. بل لقد ذهب القديس أوغسطين إلى "أننا لانعرف أحدا إلا بواسطة الصداقة"، ذلك أنه مادام التواصل سبيلا للمعرفة بما يخلقه من مجال بينذاتي مشترك، فإن هذا المجال يبلغ أقصى درجات إتساعه في علاقة الصداقة. وإذا كانت كل علاقة للأنا بالغير هي – بطريقة ما- نشدان الإعتراف، فلربما كانت الصداقة من الأنماط العلائقية القليلة التي يمنح فيها هذا الإعتراف بشكل سلمي بإعتبارها علاقة ود وحب خالصين بعيدا عن كل نزوع نحو امتلاك المحبوب والإستحواذ عليه كملكية خاصة. ولعل مايميز الصداقة حسب كانط هو جمعها بين مطلبين يصعب الجمع بينهما: الحب بما يعنيه من إقتراب وتماه والإحترام بما يعنيه من إبتعاد وتقدير.

ولكن أي نوع من الصداقة هذا الذي يحقق هذه الشروط؟ فالصداقة ثلاث أنواع حسب أرسطو: صداقة المتعة حيث الجامع شيء أو موضوع للمتعة المشتركة؛ صداقة المنفعة حيث الرابط هو المنفعة المتبادلة ثم الصداقة الحقيقية: صداقة الفضيلة التي تقوم على حب الخير لذاته وللأصدقاء، دون أن تلغي إمكانية حضور المتعة والفائدة كنتيجتين لاكغايتين. وقد ذهب أرسطو إلى حد القول بأن الصديق الجدير بهذا الإسم هو ذاك الذي إن خاطبته كدت تقول : " ياأنا " من حيث أنه " إنسان هو أنت، لكنه بالشخص غيرك". وبعبارة أخرى، فإننا نعثر في الصديق على ذاتنا لما بيننا من تشابه وتطابق. لكن هل نحن فعلا نصادق الصديق لأنه شبيهنا كما ذهب إلى ذلك ايضا أنبادوقليد؟ اما لأنه ضدنا ونقيضنا كما ذهب إلى ذلك هرقليط؟.

لقد فحص أفلاطون في محاورة ليزيس كلا الإحتمالين واستبعدهما و انتهى إلى أن الصداقة علاقة محبة و ميل ورغبة متبادلة بين الغير و الأنا أساسها حالة وجودية وسط بين الكمال المطلق (الخير الأقصى)و النقص المطلق (الشر الأقصى)، لأن الخير مكتف بذاته مستغن بكماله عن غيره، و من يتصف بالشر و النقص المطلقين لايجد في نفسه الرغبة ولا الحاجة بل و لا يجد القدرة على إدراك الخير والكمال وطلبهما. إذن فأساس الصداقة هو إنطواء كل كائن على مبدإ نقص و عدم كفاية. لكن علينا بالمقابل أن نستحضر على الدوام أن الصديق يظل غيرا مهما بلغة درجة التطابق و التماهي أي يظل دوما غير قابل جزئيا إلى أن يرد أو يختزل إلى الأنا وكل محاولة لفهمه تترك دوما بقية من عدم الفهم مما يجعل الصداقة تفاهما و وفاقا مستمرين غير محدودين. إنها "الغيرية الجذرية" بتعبير "غيوم و بودريار" .

ذلك إذن هو الغير عندما يتخذ وجه الصديق. فلنر الآن وجها آخر على الطرف النقيض وهو الغريب.
إذا كان الصديق عنوانا للثقة و المعرفة و الإقتراب و الإحترام فإن الغير يبدو للوهلة الأولى عنوانا للحذر، للمجهول، للنكرة، للإبتعاد والإقصاء. لكن من هو الغريب تحديدا؟ إنه مفهوم زئبقي لأنه يتحدد دوما كغريب بالنسبة لجماعة مرجعية ما؛ إنه ذلك الذي لا يشاطر أعضاء الجماعة مرجعيتهم المشتركة، ذلك الذي يجر خلفه ثقافة مغايرة مجهولة، إنه الدخيل بكل بساطة، وباعتباره كذلك فقد نظر إليه عبر التاريخ كمسؤول عن كل شرور المدينة أو الجماعة والذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن هذا الموقف الإقصائي حاضر بقوة في كل مكان بدءا من ساكن المدينة الذي يعتبر نفسه "مدينيا" أصيلا محملا جميع مشاكل المدينة إلى هؤلاء الغرباء "البدو" القادمين من البعيد، وصولا إلى الخطابات السياسية القائمة على كراهية الأجنبي المهاجر و ضرورة طرده كحل للأزمات ... . لماذا و هل ينبغي أن يكون الغريب دائما إسما مستعارا للحقد و الإقصاء؟

تقوم سيكولوجية الجماعة على تطابق الأنا أو الذوات الفردية مع النحن/الجماعة انطلاقا من آليات معقدة للتنشئة الإجتماعية، مع اعتقاد راسخ في الطابع الخالص لهوية الجماعة و ثقافتها. مما يسهل على أفراد الجماعة التعرف على بعضهم و استبعاد كل غريب و آخر، وهنا تتساءل الفرنسية ذات الأصل البلغاري "جوليا كريستيفا": ألا تحمل كل جماعة غريبها في ذاتها قبل قدوم الغريب الأجنبي؟ و ذلك عندما يشعر أفرادها بالرغبة في التمرد على روابط و قيم جماعتهم ووضعها موضع تساؤل و تشكك أو عندما لايستطيعون العثور على "أناهم" من خلال "نحن" الجماعة. وهل هناك جماعة ذات هوية خالصة تبرر استبعاد العناصر الأجنبية عنها؟ ما الهوية المغربية مثلا؟ أليست مزيجا من هويات أمازيغية ،افريقية، عربية، إسلامية، اندلسية، غربية...واللائحة طويلة. إذا فالغريب أو الآخر ليس سوى ذلك الجزء أو القوة الخفية لهويتنا التى نحاول انكارها باستمرار بحثا عن نقاء خالص موهوم. ثم ألا تحمل الذات الفردية بدورها غريبها في ذاتها متمثلا في ذلك الجزء المجهول – اللاشعور – الذي لايكاد الأنا يعلمه أو يعيه.

كخلاصة، ماذا ينبغي أن يعني الغريب بالنسبة إلى الأنا؟ إنه يحيل كل هوية فردية أو جماعية إلى هوية إشكالية وربما مستحيلة. والأهم من ذلك – كما تقول كريستيفا – فإننا عندما نتعرف على الغريب في ذاتنا، نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته فنتخد حياله موقف الحوار والتسامح عوض العداء والإقصاء.

أطروحة الأنا/ الذات في مقابل الآخر/ المختلف تفرض ثباتًا حيث لا ثبات، وتستدعي ترسانة من المفاهيم والتوابع ظلت تنسب الشر إلى جهة متحيزة، ورسمت له – وللخير بالتالي - صورة بدائية بسيطة، وفي الحقيقة أن مفهوم الخير والشر أعمق من هذا وأكثر تركيبًا. وعليه فإن الفصل المتوهم بين "أنا" ثابتة محددة متبلورة، و"آخر" له نفس الثبات والتحديد والتبلور، ليس إلا فصلاً متعسفًا، لايمكن تجاوزه إلا بشك مستمر في الذات/ الهوية. ليس بهدف السقوط في نوع من الوسواس أو الفصام، ولكن لنرى الذات منزلة من منازل الآخر، ونرى الآخر منزلة من منازل الذات في دورة واحدة دائمة ودائبة لا تتوقف، ولا تنفصل فيها منزلة عن منزلة إلا إلى حين،. وفي إطار نفس التصور يمكن أن نرى "الهوية" كحالة متحركة دينامية لا تكف عن التشكل والتبلور، والتداخل والتشابك، والانكماش والتمدد الداخلي، وهذا مخالف للهوية كمادة صلبة تتراكم طبقاتها أو تنكسر تحت الضغوط. أنظر هذا النص حيث يتبادل الرحالة والأهالي موقع الغريب

الهوية كائن حي ينمو ويتنفس، ويكتسب خبرة وثراء بالتفاعل والتنوع، ويختنق بالعتمة والقيود، والانغلاق والتضييق، ولو كانت كلها مبررات حسنة النية، وتدابير حماية. وإذا كان التقدم التاريخي للبشرية قد تم بفضل تفاعل ثقافات مختلفة في الهجرات والمبادلات والحروب... حيث تلاقي الذات الغير والمختلف، فإن السلوك المطلوب – حسب ليفي شتروس- تجاه ثقافة الآخر والتي هي مصدر غرابته هو الشعور بالعرفان والتواضع ومحاولة المعرفة والفهم بدل النبذ والتجاهل والإقصاء
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الغير
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الغير

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى التلميذ النجيب  :: المنتدى الدراسي التكويني :: الفلسفة-
انتقل الى: